عبدالله الوهيب .. أسطورة كرة اليد

ودعت عنيزة ابنها البار عبدالله الوهيب , الذي توفي مع عدد من أفراد أسرته بعد مغرب يوم الجمعه 18/12/1428هـ إثر حادث مروري أليم على طريق متنزهات الغضا .. وقد شهدت مراسم الدفن ـ حسب ما تناقلته الصحف المحلية ـ جموع غفيرة من محبي اللاعب الكبير , الذين فجعتهم وفاته رحمه الله ..
قرأت الخبر في حينه في المنتديات فأصبت بالوجوم والحزن الشديد , فعبدالله الوهيب ـ حسب تصنيف شخصي ـ أعظم رياضي عرفته منطقة القصيم .. وطالما رسم البسمة على شفاهنا في ملاعب كرة اليد , عندما كان يتربع على عرش أفضل لاعبيها في المملكة والخليج , عندما كان لتلك اللعبة شعبية جارفة في نهاية السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات من القرن الميلادي المنصرم .. كنا صغارا لكن مباريات العربي والنجمة في دوري ممتاز اليد آنذاك كانت تشدنا , وتلهب حماستنا .. خصوصا أن ما يقارب نصف لاعبي المنتخب آنذاك كانوا من عنيزة .. وعلى رأسهم أفضل لاعب كرة يد في المملكة والخليج , حسب تصنيف رسمي آنذاك , وهو المرحوم عبدالله الوهيب ..
وإذا قلت إن الوهيب أعظم رياضي عرفته المنطقة فإني لا أطلق حكما انطباعيا تسوقه العاطفة , أو تفرزه ملحمة الوداع الأخير .. بل أقوله معتمدا على حقائق ماثلة للعيان .. فالوهيب كان قائد المنتخب لعدة سنوات , وكان أفضل لاعب كرة يد في المملكة والخليج .. ولم تقتصر مواهبه على كرة اليد , بل كان بارزا في مجال ألعاب القوى , وأسهم إسهامات كبيرة مع ناديه العربي في تحقيق بطولات مختلفة , وخصوصا في رمي القرص , الذي حقق فيه الوهيب أرقاما قياسية .. وفي رمي الرمح , والوثب الطويل , وعدو المسافات القصيرة وغيرها .. ولا أعرف لاعبا على مستوى المنطقة كان الأول في مجاله على مستوى المملكة غيره ..
في إحدى بطولات المنطقة رمى الوهيب القرص لمسافة ستة وثمانين مترا , وهو رقم كبير , ولست أعلم شيئا عن الأرقام المحلية والإقليمية والعالمية , لكن هذه مسافة كبيرة .. حدث هذا في ملاعب نادي الحزم بالرس , ربما في عام 1398هـ . وفي أحد التدريبات التحضيرية رمى الوهيب الرمح لمسافة واحد وتسعين مترا ..
أما في كرة اليد فقد كان فارس اللعبة الأول على مدى الأجيال , وقد زامل عددا من لاعبي المملكة الكبار , أمثال فهد صبيح من الاتحاد , وأبوزهرة من الأنصار , وعبدالله العليان من النجمة , وصالح الطريقي من الهلال وغيرهم .. ناهيك عن اللاعبين العرب والأجانب الكبار الذين أسهموا في ارتقاء اللعبة على المستوى المحلي , حتى كادت تنافس كرة القدم ..
لعب الوهيب مع هؤلاء جميعا وتفوق عليهم بمواهبه الجسدية والفنية , فقد وهبه الله بسطة في الجسم , إذ يبلغ من الطول ما يقارب (190) سم , إن لم تخني الفراسة .. وكان مفتول العضلات , حتى يظن رائيه أنه خُلق من عضلات فقط .. كان رحمه الله ذا قبضة حديدية جبارة , ورميته على المرمى لا تُصدّ ولا تُرد .. ففي مبارة بين العربي والأهلي أقيمت على ملعب النجمة عام 1400هـ رمى الكرة على مرمى الأهلي بعد ارتقاء هائل , فدخلت المرمى , وضربت الماسورة الداخلية لسقفه ثم ارتدت لقوة الرمية لتسقط في مرمى العربي في الجهة المقابلة ..! وفي إحدى المباريات المقامة على ملعب متوسطة فلسطين انحرفت إحدى رمياته عن المرمى لتصيب رجل الأمن الواقف قرب المرمى , فتلقيه من الملعب المرتفع عن مستوى الأرض مسافة نصف متر تقريبا , ثم حُمل بعدها في سيارة الإسعاف ..
في كرة اليد يبزر لاعب من اللاعبين يمثل نصف الفريق , لكن الوهيب لم يكن نصف الفريق , بل كان ثلاثة أرباعه , ومعظم الأهداف هو الذي يُسجلها , ولذلك تُفرِّغ الأندية المنافسة لاعبين أقوياء لمراقبته , والحد من خطورته .. لكن هيهات فالوهيب صعب جدا , لا يمكن السيطرة عليه , خصوصا إذا ارتقى ليرمي الكرة من علو .. لقد كانت له قفزة مميزة لم أرها ـ على كثرة مشاهدتي لمباريات كرة اليد آنذاك ـ في أي لاعب آخر .. فقد كان يرتقي عاليا لمسافة تقارب الثلاثة الأمتار أو تزيد , ثم يثني ساقيه وهو في الهواء , والكرة بيده مثبّتة على فخذه , ثم يرمي رميته الجبّارة .. والعجيب في الأمر أنه كان يُخيّل إلي حينها أنه عندما يرتقي يتوقف في الهواء قليلا وكأن المشهد لقطة في فلم تم إيقافه ..
كان الوهيب يسجل أهداف فريقه بنسبة تزيد على الثمانين في المائة في معظم المباريات , ففي إحدى المباريات مع نادي الخليج سجل الوهيب ثمانية وعشرين هدفا من ثلاثة وثلاثين .. وفي مباراة بين منتخب دول مجلس التعاون الخليجي الذي كان يقوده الوهيّب , مع أحد الفرق في إحدى المناسبات الخليجية , سجل الوهيب سبعة وعشرين هدفا من خمسة وثلاثين إن لم تخني الذاكرة , وقد أقيمت المباراة في إحدى دول الخليج ولعلها الكويت ..
أسهم الوهيب مع زملائه في تحقيق بطولة المملكة للشباب على ما أذكر في نهاية التسعينيات الهجرية , وقاد فريقه العربي للعب المباراة النهائية أمام الأهلي عام 1404هـ , وقد خسر العربي المباراة بعد أحداث دراماتيكية , أسهم الحكام فيها بهزيمة العربي , عندما تعمدوا إثارة لاعبيه , وأخرجوا الوهيب بالكارت الأحمر .. وكان بعض حكام كرة اليد في تلك الفترة يتخذون قرارات مشبوهة لصالح الفرق .. وكرة اليد تعطي مساحة كبيرة لاجتهاد الحكم لتقدير المخالفات .
ظل الوهيب رمزا شامخا في كرة اليد إبان ازدهارها في فترة الثمانينيات الميلادية على الرغم من ضعف الاتحاد المشرف على اللعبة .. وكان في زمنه الأوحد , حتى أنه كان يُلقّب بـ (ماجد اليد) تشبيها له باللاعب الفذ ماجد عبدالله في كرة القدم .. والحق أن الوهيب في كرة اليد أعظم من ماجد عبدالله في كرة القدم , لأن دوره وتأثيره في الفريق والمنتخب أكثر من تأثير ماجد ـ على جلالة قدره ـ في كرة القدم .. فالوهيب يمثل ـ بلا مبالغة ـ ثلاثة أرباع الفريق الذي يلعب له , ولم يكن ماجد , ولا أي لاعب في العالم يمثل هذه النسبة في كرة القدم .. وطبيعة كرة القدم تختلف عن طبيعة كرة اليد .
ولعلي أذكر هنا موقفا شخصيا حدث لي في نهاية التسعينيات الهجرية , وكنت وقتها طالبا في المتوسطة .. فقد طلب إلي الدكتور(حاليا) حمد العبدالعزيز الخرب أن أشارك في مسابقة ثقافية أمثل العربي فيها , وكان إداريا وقتها .. فوافقت , لكن هذا يتطلب تسجيلا في النادي , والتسجيل يتطلب اختيار لعبة من ألعاب الكرة , فسئلت في مكتب الرعاية عن اللعبة التي أختارها , فأجبت على الفور (كرة اليد) ولم ألعب كرة اليد يوما في حياتي , مع أنني كنت كبقية الفتيان أمارس كرة القدم بشكل يومي .. تم ذلك ـ بلاشك ـ بسبب العشق الذي زرعه الوهيب في نفوسنا ..
رحم الله عبدالله الوهيب الذي أسهم مع زملائه في نادي العربي ونادي النجمة في رفع اسم عنيزة عاليا , وجعلوها رقما مهما وكبيرا في خارطة كرة اليد السعودية في فترة ازدهارها التي مضت مأسوفا عليها ..
هذه خواطر انثالت على الخاطر فسال بها لعاب القلم .. أكتبها عن الفقيد وأنا لا عهد لي به منذ مباراة الكأس الشهيرة مع الأهلي على صالة الدرعية التي أشرت إليها قبل قليل .. كتبتها ردا لجميل أسداه لي ولغيري المرحوم عبدالله الوهيب , عندما ألهب أكُفّنا ومشاعرنا ووطنيتنا برقصه العنيف على مستطيل البلاط في متوسطة فلسطين , والإسفلت في نادي النجمة !
وأدعو محبيه المقربين إلى نثر مشاعرهم هنا عن فنه الرياضي الأصيل , وإبداعاته الخيالية في كرة اليد وألعاب القوى ..
كما أدعو قادة المدينة إلى تخليد اسم اللاعب بتسمية أحد الشوارع أو الصالات الرياضية باسمه , فهو يستحق هذا بكل جدارة , مثله مثل الآخرين الذين خدموا المدينة في المجالات المختلفة .. ويكفي عنيزة فخرا أن تحمل ريادة أول مدينة في المنطقة يكون أحد أبنائها قائدا للمنتخب السعودي .. وأظن أن العملاق الآخر اللاعب عبدالله العليان من نادي النجمة , حمل تلك الشارة , ولست أدري هل كان ذلك قبل الوهيب أم بعده ..
إلى جنة الخلد يا أباعبدالرحمن , وإنا والله على فراقك لمأسوفون .. أخوكم خيرو